المادة    
يقول المصنف: [إن ما يدل عَلَى أن الإسراء كَانَ بجسده صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حال اليقظة لا المنام: أن الله تَعَالَى قَالَ: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى))[الإسراء:1] والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح].
فإذا أُطلق فإنَّه يطلق عَلَى الروح والجسد معاً كقوله تعالى: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ)) [الجـن:19] أي: أنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قام بروحه وجسده [كما أن الإِنسَان اسمه مجموع الروح والجسد] فلا نفهم أنه روح فقط, فإذا قلنا: جَاءَ إنسان، فلا يمكن أن يفهم أحد أنه جاءت روح إنسان, وإنما المقصود أنه جَاءَ بذاته، أي: بجسده وروحه, [هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح.
فيكون الإسراء بهذا المجموع
-وهذا ما تقدمت الأدلة عليه بالتفصيل- ولا يمتنع ذلك عقلاً] بل لا نأبه أن يكون هناك من يقول: إن العقل يثبت هذا الشي أو ينفيه مادام أنه قد صح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعقولنا: إنما هي آلات أعطانا الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إياها لنستعين بها عَلَى فهم ما ينزله علينا، فإذا جعلناها معارضة لما أنزل فقد خرجنا بها عن طورها، وظلمنا أنفسنا كما قال تَعَالَى عن الشرك: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13] والبدعة: ظلم؛ بل المعصية أيضا ظلم؛ لأنها وضع للشيء في غير موضعه، ومن أكبر الظلم: أن يظلم هذا العقل -الذي جعله الله أداة لنفهم طريقنا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما بين وشرع- فنجعله أداة معارضة ومضادة للوحي الذي أنزله الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فإنه أعطانا إياه لنفهم به هذا الوحي لا لنرد به الوحي.
لكن المُصنِّفُ ذكر ذلك عرضاً من باب التنزل والجدل واستدراج الخصم، وإلا فإننا -أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ- كما أننا في المأثور والمنقول نستطيع أن نتكلم ونبين الحق، فكذلك أيضاً في المعقول والنظر نَحْنُ أصدق النَّاس وأنصحهم في النظر والعقليات يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [ولا يمتنع ذلك عقلاً] أي: ما المانع العقلي أن يكون الإسراء بالروح والجسد، وأن يتحقق في هذه السرعة، وفي هذا الوقت، وبهذه الكيفية التي ثبتت عنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إِلَى إنكار النبوة وهو كفر] يريد أن يُلزم الذين ينكرون الإسراء والمعراج عامة، والذين ينكرون كون ذلك بالجسد والروح بلازم وهو: أن كل مؤمن بالإسلام وبنبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقر بأن جبريل عَلَيْهِ السَّلام ينزل إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، بل قد نزل إِلَى من قبله، وهناك ملائكة آخرون ينزلون إِلَى الأرض، ثُمَّ يصعدون إِلَى السماء؛ فإذا كَانَ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد بين ذلك، وكلنا مقرين بأن الملائكة تنزل من السماء إِلَى الأرض، ثُمَّ تصعد وتعرج، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى تفاوت في أحوالها ووظائفها وأعمالها بهذه القدرة العظيمة، وكل الذين يؤمنون بالرسل وبالأنبياء حتى من غير الْمُسْلِمِينَ مقرون بهذا الأمر، فما المانع من الإقرار بصعود البشر ثُمَّ نزولهم، كما حدث ذلك لنبينا مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سيما وهو أفضل الخلق وسيد ولد آدم وهو أفضل الأَنْبِيَاء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه عليهم أجمعين.
فإنكار نزول الملائكة يؤدي إِلَى إنكار النبوة، وقد سبق في مبحث النبوة أن كل الدين مركب عَلَى قضية أساسية، وهي إثبات نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن من ينكرها معناه أنه لا يؤمن بالسنة، ولا يؤمن بالملائكة، ولا بالله ولا باليوم الآخر فهذا كافر، كحال من أنكر نبوته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود والنَّصارَى وغيرهم، ومن أقر بنبوته، فإنه تلقائياً يجب عليه أن يقر بكل ما صح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأخبار، وكذلك يجب عليه أن يعمل بكل ما صح من الأوامر والنواهي.
  1. الحكمة من الاسراء إلى بيت المقدس

    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    [فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إِلَى بيت المقدس أولاً؟
    فالجواب والله أعلم: أن ذلك كَانَ إظهاراً لصدق دعوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كَانَ عروجه إِلَى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن إطَّلاعهم عَلَى ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته. وفي حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره وبالله التوفيق] اهـ.

    الشرح:
    يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إِلَى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب -والله أعلم-] نسب العلم إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونسبة العلم إليه أسلم وهو أدب من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها العالم والمتكلم في هذه الأمور التي لا يستطيع الجزم فيها، ولاسيما ما يتعلق بالحكمة، فنحن لا نعرف ولا ندرك هذه الحكمة، فمنها ما هو ظاهر يدرك بالفهم وبالنظر السليم الصحيح، ومنها أمور خفية ودقيقة لا يمكن أن ندركها بنفس القوة في القطع والجزم، ومنها ما لا يدرك أصلاً.
    فعلى الإِنسَان أن يرد العلم إِلَى الحكيم العليم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَقُولُ: والله أعلم، هذا خير وأفضل وأسلم في أمثال هذه الأمور، فهو من الآداب التي ينبغي علينا أن نتحلى بها، فلا نجزم في شيء لا نملك عليه دليلاً نستطيع معه أن نجزم.

    فَيَقُولُ: [أن ذلك كَانَ إظهاراً لصدق دعوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المعراج]، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى كل شيء قدير ويستطيع أن يعرج به إِلَى السماء، وأن يأتي بأي دليل آخر عَلَى إثبات هذه الواقعة غير الإسراء، قبله أو بعده، أو بأي أمر من الأمور، فلا نستطيع أن نحد قدرته ومشيئته وإرادته، لكن هذا جانب من جوانب الحكمة التي تظهر لنا، أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يريد إظهار صدق دعوى المعراج، فكان الإسراء مهلاً له
    فلذلك حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس نعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، وهذا بعض الحكمة، لأن قريشاً تعرف بيت المقدس وتسافر وترتحل إليه وهذا أمر مشهود معروف عندهم، كما في حديث أبي سفيان مع هرقل، حين قبض عليه أعوان هرقل كان في أرض الشام، وهم يعرفون ذلك المسجد، فحينما يخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه أسري به إِلَى بيت المقدس ثُمَّ يخبرهم أنه عرج به إِلَى السماء، نجد أن هناك نوعاً من النقلة النفسية، وهو خارق بلا شك، فلذلك قالوا: نَحْنُ نضرب إليها أكباد الإبل الشهر والشهرين، ويذهب مُحَمَّد إليها في ليلة، لكن أعظم منه وأدهى وأشد أن يعرج به من ذلك المسجد إِلَى السماء، فهذا شيء بعيد جداً؛ لأنهم يجادلون ويمارون في هذا الأقل.
    لكن عندما يكون لديك أمران: أحدهما مستحيل في نظرك، ثُمَّ يأتي بعده ما هو أكثر استحالة منه، فإن هذا يدفعك إِلَى أنك تكاد أن توافق بالأمر البسيط، وتقول: ما دام أن فيها كذا نسلم بهذا الأقل والأهون، وهذا أمر يمكن أن يجادل فيه، فلهذا جاءوا يجادلون كيف ذهبت؟ فلما طلبوا منه وصف المسجد أظهره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أمامه المسجد، فأخذ يراه رأي العين ويصفه لهم حتى أيقنوا وصدقوا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أسري به، وكان ذلك تصديقاً قلبياً وليس تصديقاً إيمانياً، ووقر ذلك في قلوبهم، كما قال الله تعالى: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))[الأنعام:33] فجحدوه بعد أن وقر في قلوبهم.

    ومن الحِكَمِ الأخرى أن بيت المقدس هو مهبط النبوة قبل نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنبياء بني إسرائيل بعثوا في تلك الأرض المقدسة، وهناك القبلة الأولى التي كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يستقبلونها، إذاً فهناك ربط بين هذا النبي الجديد وبيئته وبلدته الجديدة -النبوة الخاتمة- وبين مهبط النبوة السابقة لها أيضاً، وفيه إشعار بأن هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكمِّل ومتمِّمٌ لرسالات الأَنْبِيَاء قبله، فهو خاتمهم، ولم يأتِ في باب التوحيد والإيمان بجديد عما جاءوا به في أصَلِ القضية، وإنما دعا إِلَى ما دعوا إليه.
    فعلى كل من يقر بنبوة الأَنْبِيَاء ويثبتها من أهل الكتاب بالأخص أن يؤمنوا بهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك ما حصل فيه من صلاته بجميع الأَنْبِيَاء صلَى الله عليم وسلم في ذلك المكان، وهذا أيضاً تحصل به الحكمة، إذا كَانَ الإسراء أولاً، ثُمَّ بعد ذلك المعراج، وأن العبادة موضعها هي هذه الأرض في هذه الدنيا، لا سيما في مثل هذا المقام الذي يراد منه أن يظهر فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العبودية عَلَى بقية الأنبياء، ولهذا صلَّى بهم إماماً فجمعهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له، وأمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مهبط الدعوة، فكان بذلك إيذاناً بأنه أكملهم في العبودية.
    فالنبوة حصرت في ذرية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ كانت النبوة في فرع إسحاق فنقلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فرع إسماعيل، وكلاهما أبناء إبراهيم الخليل عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم،
    ويمكن أن نستنبط حِكَماً كثيرة غير التي ذكرها المُصنِّف وإن كانت هذه التي ذكرها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ من أظهر وأجلى الحكم.